أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الحكيم البابلي - يَرمازية وجراد .. ووطن















المزيد.....


يَرمازية وجراد .. ووطن


الحكيم البابلي

الحوار المتمدن-العدد: 2991 - 2010 / 4 / 30 - 11:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لا يغرق المرء لأنه سقط في النهر ، بل لبقائه مغموراً تحت سطح االماء ............ باولو كويلو
*****************
مقدمة لا بد منها
بعد حوادث العنف التي أعقبت مؤامرة الشواف في الموصل ربيع وصيف عام 1959 ، تبدلت عواطف وسياسة الزعيم عبد الكريم قاسم تجاه قوى اليسار العراقي وأنصاره ومريديه .
وكان خطابه الشهير ضدهم في كنيسة مار يوسف - الكرادة الشرقية ، بمثابة الضوء الأخضر لبداية التنكيل بهم وإضعاف قاعدتهم الشعبية العريضة المتنامية ، والتي كانت قد بدأت تُثير مخاوفه وقلقه ، وخاصة بعد المسيرة التأريخية بمناسبة عيد العمال ، والتي إشترك فيها - يقال - مليون إنسان .
وهكذا راحت أجهزة الأمن تختلق لهم الحجج والتهم ، وتُطاردهم ، وتزج بهم في السجون والمعتقلات . ولم يقتصر التنكيل بهم على المنظمات القمعية للدولة فقط ، بل تعداه إلى المدنيين من عصابات ( قبر ليمتد ) الذين كانوا قد عمموا سياسة إبادة كل اليساريين في العراق لاحقاً
* [ قبر ليمتد : تتكون حروف كلمة ( قبر ) من الحروف الأولية ل قوميين ، بعثيين ، رجعيين ، وإستعملناها بيننا ككنية وشفرة لهؤلاء الناس ] .
بسبب كل تلك الظروف والضغوط ، إختفى أغلب الرجال والشباب اليساريين المُنَظَمين والفعالين من دور سكنهم ومحلات تواجدهم أما عن طريق إعتقالهم أو تخفيهم الطويل أو المؤقت هنا وهناك تجنباً للكماشة المنصوبة لهم .
لذا بقيت عوائلهم في حماية كبار السن من الرجال والمراهقين الذين تحت سن العشرين من أمثالنا يومذاك ، والذين واجهوا صعوبات كبيرة وخطرة في مواجهة بطش موتوري ( قبر ليمتد ) الذين كانوا من سكنة نفس المناطق ، والذين تحولوا إلى ضباع شرسة مسعورة تدعمها وتتستر عليها - بتنسيق مكشوف - قوى الأمن والشرطة المحلية .
****************
جزء صغير وبسيط جداً من صورتنا داخل ذلك المجتمع :
داخل تلك الصورة القاتمة وذلك الزمن المحموم 1962 ، وبعد تخفي أخوتنا الأكبر منا سناً ، كانت شلتنا في منطقة سكننا تتكون من أربعة أصدقاء
أياد ... 14 سنة ، مسلم سني من أب كردي وأم تركمانية .
فرات ... 15 سنة ، مسلم سني من أب عربي وأم كردية .
علي ... 17 سنة ، مسلم شيعي ومن والدين شيعيين .
وأنا ... 16 سنة ، مسيحي كلداني .
كُنا جميعنا أبناء عوائل يسارية ، لذا أضحينا أهدافاً لإعتداءات عصابات ( قبر ليمتد ) بصورة عامة ، ولإعتداءات شخص أسمه ( عادل ) بصورة خاصة .
كان عادل من سكنة منطقتنا ( مدينة المأمون الأولى ) التي كانت تحتوي على 120 بيتاً ، وكان عادل من أبناء واحدة من عشائر المنطقة الشمالية الغربية لبغداد . شاب في الثلاثين من عمره ، مربوع القامة متين البنيان يميل قليلاً إلى السمنة ، لئيم الخلق والممارسات ، يعشق الشر والتنكيل بكل من لا يُشابهه في الديانة والقومية والطائفة والتوجه السياسي .
الذي ما زال يُضحكني لحد اليوم هو أنه كان ( يُبسمل ويُحوقل ) كلما رأى أحد منا ، ويُعقب بسملته بسباب أوسخ وأزنخ من أية زبالة .
كانت شخصية عادل مزيج غريب جداً من الأشقياء المُتفلت ، والبدوي الجلف ، ورجل الأمن الموتور ، وتحتَ ثيابه كان يحتفظ دائماً بمسدس ( توكاريف ) الروسي الصنع والكبير الحجم ، وغالباً ما كانت تتواجد في جيوب سترته عدة بوتازات يرميها على واجهات بيوتنا لأرهابنا عند عودته ليلاً إلى بيت أهله وهو مخمور .
* [ بوتازة أو بوتاز - بالباء الباريسية - هو ما يسموه في مصر ( بُمبْ - بُمبةْ ) ويعملوه بأحجام صغيرة لا تُرضي عُنف العراقيين الذين يصنعوه بحجم قبضة اليد أو أصغر وعلى الغالب فالبوتاز العراقي خطر جداً أحياناً وخاصة عندما يُضيفون له المسامير الصغيرة وغيرها من الحصى الناعم مع مكونات التفجير التي هي - على ما أعتقد - البوتاسيوم والذي جاء منه تسمية البوتاز ، كذلك أعتقد بأننا كُنا نسميه : الزرنيخ ] .
كان البوتاز سلاحاً يُمطر بيوتنا حتى في وضح النهار أحياناً ، بحيث تحولت الواجهات الجميلة الملونة لبيوت العديد من العوائل اليسارية إلى اللون الأسود المُسَخَم .
كانت شُلتنا الصغيرة تلك تُطلق على عادل كنية ( عادل يرمازي ) !!.
* [ كلمة يرمازي من يرماز ، وهي كلمة تركية تعني الأشرار المنفلتين في أي مجتمع ، والذين لا نفع بهم ، بل ربما الضرر ] .
ضحايا عادل كانوا كثيرين في منطقتنا ، وكان يستهدف في إعتداءاته ، كبار السن من الرجال ، أو المُراهقين من أمثالنا ، وكانت شُلتنا الرباعية تستهويه وتُثير عميق حقده بسبب تركيبتنا - الأعتباطية - سياسياً وقومياً ودينياً !!.
كان واثقاً وبعنجهية وفوقية وغرور من إننا تحت رحمته ، ( على كَدْ إيدَة ) ويستطيع أن يلعب بمقدراتنا متى شاء ، وكان يُذَكِرَنا دائماً بأننا يجب أن نشكره كوننا لا زلنا أحياء ، لأن قتلنا في عِرف الإسلام حق وحلال !!!.
وكُنا نتحاشاه قدر الإمكان ، ربما لصغر أعمارنا قياساً لعمره ! أو لخوفنا من المسدس الراقد خلف ثيابه حيث كُنا نحس بأن المسدس هو الذي يشتمُنا كل يوم .. وليس عادل .
ولإننا كُنا نبتلع الإهانة تلو الأخرى ، لذا راح عادل يتسافل ويتواغد علينا أكثر وأكثر ، ولم يكن يدع أية فرصة ولو صغيرة دون تجريحنا وثلمنا وتحدينا وكسر معنوياتنا حتى أصبح عادل ، كابوسنا الذي يُذكرنا (بلا رجولتنا ) حسب مفاهيم ومعايير ذلك الزمن الأغبر .
تجرأ عادل علينا بلا حدود ، وراح يُكرر على أسماعنا أشياء كثيرة بائسة تدل على قحطه الفكري والإجتماعي ، لكنها كانت جارحة ومؤلمة ومُخدِشة بنفس الوقت للأسف .
كان يقول لي على سبيل المثال بأن كل المسيحيين كُفار وخونة وأولاد زنى ( نغولة ) ونزازيح عند سادتهم الذين سينتهكون أعراض نساء المسيحيين بعد أن يقطعوا رأس الزعيم الذي قرُبت أيامه !!.
ويقول لأياد ( لولا الأكراد لهلكت الحمير ) ، وهي مُعايرة عنصرية لأن فقراء الأكراد كانوا يعملون حماميل في بغداد لقوة أجسادهم الجبلية ، وبعدها يسألهُ : وين أذنك ؟ وهذه حكاية قديمة ومُزحة عُنصرية أخرى باردة الدم تقول حكايتها بأنهم سألوا الكردي .. أين اُذنك ؟ فمد يده اليمنى فوق رأسه وأمسك بأذنه اليسرى !! .
أما بالنسبة لفرات ، فكان عادل يتساهل معهُ - نسبياً - لأنه من أب عربي سني وأم سنية كردية !! وهذه أشياء تستحق ( Discount ) !! . وكان يقول لفرات : أنت أشرفهم ، بس بعدك نص رجال من الجانب العربي ، وأنعل أبو نصك اللاخ !!.
وكالعادة ... كان المسكين علي هدفه المُفضل ، كان يبرم شاربه بلؤم وبرود ، ويُرَقِصُ حاجبيهِ وبإبتسامة خبيثة يهمس لعلي : حضرتلك كونية اُم القلمين !!!!.
* [ كوْنِيَة : كيس كبير مصنوع من الجنفاص ، يسع حمولة 100 كيلو من الرز غير المطبوخ ، و ( أبو القلمين ) ماركة لأحدى أحسن أنواع الرز ، وكان يُطبع على الكونية خطين أحمرين هما نوعية أو ماركة ذلك الرز . كان لعلي أخوين أصغر منه ، إختفى أحدهما - 14 سنة - بعد أن كان قد ذهب بمفردهِ إلى الدور المسائي لأحدى العروض السينمائية . بعد أسبوع أو أكثر عثر بعض الفلاحين على جثته داخل كونية رز اُم القلمين !!!.
قالت تقارير الطب العدلي أن الصبي كان قد اُغتُصِبَ حديثاً وطُعن عدة مرات بسلاح جارح وحاد !!.
إعتقد البعض بأن ذلك الإعتداء اللا حضاري كان ربما بسبب أن عائلة علي من أصل نجفي وفيها أبرز رجال الدين النظيفين والوطنيين ، إضافة لرجال آخرين كثيرين من نفس العائلة كانوا أعضاء كبار في الحركة اليسارية العراقية ] .
ولطالما رأيتُ الدموع تجول في عينيْ علي كلما ذَكَرَهُ عادل بمآساة شقيقه المغدور ، وكنتُ أسمع علي يُزمجر من بين أسنانهِ : ولك وين تروح ؟ أطُخَك أطُخَكْ حتى لو بعد أربعين سنة !!.
كانت مُهاترات وإستفزازات وإعتداءات عادل الملحاحة المتواصلة لنا تتطور أحياناً إلى حد الإشتباك بالأيدي مما يدعو سكنة المحلة للتدخل وفض النزاع ، بينما عادل يتقمص دور البريء المُعتدى عليهْ ، ويتذرع بكل الأكاذيب الرخيصة والصبيانية أمام الأخرين ، ويروح يُلفق لنا التُهم الجاهزة في عقله المريض : ( سرسرية شيوعيين كُفار ، نصارة وعجم وأكراد يسبون القومية العربية والإسلام ومحمد وجمال عبد الناصر ) !!!.
كُنا دائماً ندفع غالياً ثمن إشتباكاتنا معه ، حيث يتجمع بصحبتهِ عشرات اليرمازية ليلاً ، ليمطروا بيوتنا بأقذع السباب والحجارة والبوتاز وأحياناً بعض الرصاص ، أو يستفردوا أحدنا في المدرسة أو السوق المحلي أو الشارع ليُعنجروه ، أو يتسوروا ليلاً ليدمروا حدائقنا الجميلة الأنيقة التي كانت فخر آبائنا يومذاك !!.
في إحدى المرات رموا داخل حديقتنا أربعة أفاعي متوسطة الحجم !!.
وكان عادل في أغلب الأحيان خلف كل تلك الخباثات والشرور التي رُبما كانت نتائج روحه المُعذَبَة لسبب نجهله جميعاً ، رجلٌ تزدحم داخله أكوام الشرور وبصورة فطرية خطرة جداً ، ولو كان يعيش في أي مجتمع حضاري لما ترددوا لحظة واحدة في إلقائه داخل أقرب سجن أو مصحة عقلية للعلاج الطويل المدى !!!.
أم عادل كانت دائماً تتخلص من عِتاب أمهاتنا بقولها شُبه مُفاخرة : يعني خوما أشتريلة كلبجات ؟ إذا ويلادكم سباع عود خلهم ياخذون ثارهُم منو !!.
والدي ووالد فرات كانا يسخران مِنا جميعاً ، وبصورة غير مُباشرة يُحرضوننا على الدفاع عن أنفسنا ....
كان والدي يكرر المثل العراقي الشهير : ( إمام اللي ما يِشَوِرْ .. يسموه إمام أبو الخِرَكْ ) .....
أما والد فرات فكان يقهقه ويُعيرنا : ( مرة ثانية لمن تتعاركون وية عادل ، عود اُخذوا خواتكم يفزعولكم ) !!! ، وكانت مؤلمة جداً كل تلك المسامير !.


في واحدة من شجاراتنا مع عادل ، قام بسحب أقسام مسدسه ، وحشر فوهته في فم علي الذي تسمر في مكانه بينما وقفنا جميعاً كالبله لا نعرف كيف نتصرف !!، إذ لم يكن لتهور ورعونة عادل حدود ، وكان الوضع السياسي للشارع يومذاك يحميه ويشجعه على التمادي !!.
يومها أحسسنا بتطور وجدية وخطورة ما حدث ، وأحسسنا بأن شراً ما .. كبير الحجم ، سيُصيب أحدنا في المرة القادمة ، لذا إجتمعنا مساءً في بيت علي ، وقررنا إيقاف النزيف والمهزلة ، والدفاع عن كراماتنا وكرامة عوائلنا ، وخاصة بعد أن علمنا بأن عادل بدأ يُسمِعُ بعض أخواتنا كلمات زنخة في طريق عودتهم من المدرسة ، لا يسكت عليها حُر !!.
وكما يقول إبن خلدون : ( إن الحق من غير قوة تسندهُ لا خير فيهْ ) .
وضعنا خطتنا بعد طول نقاش ودراسة ، وبكل دقة وحرص وجدية ، ورحنا نتدرب على عملية التنفيذ ودراسة الأبعاد والزوايا والضياء وكل صغيرة وكبيرة وكأننا نُخطط لتحرير فلسطين !!!. وكلما كان أحدنا يَبرَد أو يتخوف من العواقب ، كان علي يقول : اللي يريد يسكر ما يحسب البيكات !. وهو مثل شامي أصله : إللي بدوا يسكر .. ما بيعد قداح !.


كان هناك شارع فرعي طويل يلاصق بيوتنا ، ويمتد على طول مدينة المأمون التي تقع على أحد جانبيهِ ، بينما تقع على الجانب الآخر تُرعة ( ساقية ) بعرض أربعة أمتار وعلى جانبيها أشجار التوت ( تُكي ) العملاقة .
كانت هذه الترعة تمتد - جغرافياً - من شواطئ دجلة في مدينة الحارثية ، مُخترقة جسر الخِرْ ثم مدينتنا - المأمون - وتصل لحدود نهاية منطقة أبو غريب الزراعية ، كذلك كانت هذه الترعة تفصل بين مدينتي المأمون والمنصور .
بعد أسبوع من تفرير خطة ( رد الجميل ) ، جاء موعد التنفيذ وساعة الصفر ، وذات ليلة خريفية باردة بعض الشيئ لا قمر في سمائها ، وبعد أن لبسنا في رؤوسنا واقيات البرد الصوفية التي لا يظهر من وجه مُرتديها غير عينيه وشفته ، وأثناء عودة عادل إلى بيت أهله مخموراً بعد منتصف الليل ، كُنا مُختبئين خلف أشجار الترعة ، ومن جانب مدينة المنصور ، نحسب اللحظات والخطوات والمسافة التي تم حسابها بدقة تامة .
كُنا خائفين ، وأحدنا يُشجع الآخر ، والغريب أن راحة يدي كانت تتعرق بسبب العامل النفسي ، وعلى عكسها كان لساني وبلعومي قد أصابهما جفافٌ عجيب بحيث وجدتُ صعوبة في بلع ريقي ، بحيث تمنيت للحظات أن يتبادل لساني وراحة يدي أدوارهما !!.
وصل عادل باب بيتهم وهو يضعُ آخر خطواته الواثقة المُتثاقلة ، كان باباً قصيراً يمتد منه سور طابوق قصير أيضاً ، وكان مشروع مدينة المأمون من تخطيط ( نوري السعيد ) رئيس وزراء العهد الملكي ، والذي إختار السياجات والأبواب القصيرة - متر وربع - متصوراً بأن العراق سيمر بأجواء أزمانٍ مستقبلية متحضرة !!!!!!!!!!!!.
وبعد أن دفع عادل باب الحديقة الخارجي القصير ، فاجأناهُ ... لا بل إصطدناهُ في المكان والزمان المُناسب ، ومن بُعدٍ مدروس بدقة ، أمطرناه بأربعين بوتازة من الحجم الكبير ، والمحتوية على حصى ناعم ، ومسامير صغيرة ، وقطع مكسرة من الزجاج ، كلٌ منا كان يحمل عشرة بوتازات في كيس متوسط الحجم ، كان علي قد لف كل البوتازات الأربعين بقماش ثياب شقيقه المغدور .
لحد اليوم أبتسم بصورة تلقائية كلما تذكرتُ تلك الليلة البعيدة المُظلمة ، وكطفلٍ يأكل حلواه ببطيء وتلذذ ، أتعمد إستِحضارها بالسرعة البطيئة ( Slow motion ) لأرى عادل اليرمازي الذي مَرْمَرَنا ومَرْمَرَ ولوع مئات الناس الطيبين ، وهو يتقافز كدبٍ أعمى هاجمتهُ أسراب النحل !!.
كان يرتطم بسياج الطابوق القصير والباب الحديدي ويسقط ، وينهض ويسقط ثانيةً ، ويجثو على ركبتيهِ ، ثم ينبطح على بطنه ويزحف كأفعى وهو يحمي رأسه الدامي بكفيهِ وهو يصرخ : أويلللللللي ( الويل لي ) كفأر سمين وسخ وقع في المصيدة !!. مصابيح الحديقة والباب الخارجي سهلت عملية تصويبنا ووضوح الرؤية ، وكانت من ضمن حساباتنا الدقيقة التي إفتخرنا بها لاحقاً .
لم يستمر كل المشهد أكثر من دقيقة ، لكنها كانت لهُ ولنا أطول من دهر ، أحد إخوته - يرمازي من نوع القتلة - خرج من داخل الدار حافياً بدشداشته وهو يُطلق عدة عيارات نارية من مسدسه في الهواء بطريقة عشوائية ، ولكن بعد فوات الأوان ، فكل بوتازاتنا الأربعين كانت قد سقطت وإنفجرت مدوية تشق سكون الليل ، حول عادل ، وبسرعة مدروسة ، وثم أطلقنا للريح سيقاننا الفتية .


ضحايا عادل وإخوته كانوا كثيرين جداً ، وأعدائهم كانوا أكثر ، لذا باءت بالفشل كل محاولات التحقيق ومن كل الأطراف لمعرفة الفاعل الحقيقي ، أهم ما في الموضوع إننا لم نرى وجه عادل إلا بعد شهور طويلة .
قال الناس :
( ودوه للعرب عند عشيرته البدوية الأصول ، كي يطيبوا فَزَتِهِ وجروحه ) !.
وقالوا : صار تختة وتختة ... أي اُصيب بلوثة !.
وقالوا : أصابته بعض الشظايا بجروح عميقة !.
أما نحنُ فقد أحسسنا براحة وسلام وطمأنينة كانوا من الكبر بحيث إفتقدنا عادل جداً ، فلسفة مؤلمة فرضتها الحقيقة ، كذلك إرتاح مئات الناس في مدينتنا تلك ، وبعضهم لم يكونوا حتى سياسيين ، ولكنهم أخذوا نصيبهم من هدايا عادل التي تم صُنعها في خيمة الكراهية .
أبو فرات أصر على أن يسقينا مقداراً من عرقه المُفضل وهو يقهقه ويقول بأنه بدأ يؤمن بالجن الذين أعطبوا آلة الشر !. أما والدي فقال لنا مُعاتباً : هو هذا بوتاز لو قنابل !؟ ، أجابه علي وبراءة نزار قباني الشهيرة في عينيهِ : يا بوتاز عمو ؟
أما والدة عادل فكانت تُكررُ الدعاءعلى الفاعل حين لقائها بنساء المحلة : الله ينتقم من كل ظالم !!. فتجيب بعض النسوة بسخرية : لقد فعل !.


رأينا عادل بعد عدة أشهر ، هادئاً صامتاً لا يرفع عينيه في وجه أحد وهو يقطع الطريق من وإلى بيت أهلهِ ، إنسانٌ اُفرِغَ من عدوانيتهِ !!، ولم نصدق ، كان الأمر يبدو كمزحة سمجة أو تمثيل مُتقن ، لكنه كان حقيقة !!، شيئ ما كان قد إنطفأ فيه !!، يرمازيٌ غادره الشيطان !!. يومها عرفنا بأن الشياطين لا تُحب البوتاز ، وأن الحديد لا يفلهُ إلا الحديد ، وإن بعض الشر القليل ربما يقدر على إيقاف شرور كبيرة ومُدمرة !!.
وكم كان ينطبق على عادل المثل البغدادي الشهير : ( مثل بزونة حسين الطُعمة ... من يوم اللي جووهة ما عاودَت ) ولهذا المثل قصة طريفة .
آخر مرة رأيتُ فيها عادل ، كان جالساً في المقاعد الأمامية في باص مصلحة نقل الركاب العامة ، وخلفه مباشرةً كانت سيدة مع ابنها الصغير الذي إلتهم حلواه ونفخ الكيس الورقي الصغير وفرقعهُ بقبضة يده اليمنى ، فلم يكن من عادل إلا أن قفز من كرسيه وهو يولول مرعوباً كمن لدغتهُ حية !!.

توالت السنين والإنقلابات والإضطهادات وحمامات الدم على العراق ، وتوالى الجهلة والبدو والحمقى وصِغار الضباط والنفوس في إدارة ما تصوروه ( عشيرة ) !!. حتى معلم متواضع من دول الغرب كان أثقف وأفهم وأنزه وأكثر مقدرة على إدارة دولة من هؤلاء الغجر الذين ليس بينهم وبين العراق أي جذر ومن أي نوع !!.
وهكذا بدأ الناس يهربون بالجملة من ربوع الوطن المُثخن الجراح ، كلٌ تسوقه أسبابه وقناعاته ومُرغماتهُ .
وكغيرنا من الناس ، غادرت شلتنا الرباعية والخماسية والسداسية العراق في أوقات وأزمنة مُختلفة ، فإستقر أياد في تركيا ، وفرات في لندن ، وعلي في روسيا ، وأنا في أميركا ، ولسانُ حالنا يقول :
لا يسكن المرء في أرضٍ يُهان بها ........... إلا من العجزِ ومن قلة الحِيلِ

لم يكن عادل بشخصيته اليرمازية ، إلا مثالاً متواضعاً لعصابات ( قبر ليمتد ) ، هؤلاء الكواسر والداينصورات الذين جلدوا وجه العراق وقبحوه ، والذين إضطهدونا بكل وسيلة ممكنة ، حتى نظرة عيونهم المجردة لنا ، كان فيها حقد وإحتقار وإستصغار وإستنكاف وإستفزاز وإذلال وتهديد ودونية !!.
عاملونا كمسوخ من كوكب آخر ، وكغرباء عن العراق أو خونة أو جواسيس أو نكِرات !!، في حين تمتد جذور بعضنا في الأرض العراقية إلى عمق أكثر من سبعة آلاف سنة !!!.
وفي ظل دولة الحمقى تلكَ ، تم إضطهاد الناس سياسياً ودينياً وقومياً وطائفياً وحتى معرفياً ، وبلا هوادة أو توقف أو رحمة أو تعقل !! .
وفي العذابات الطويلة الصامتة الشجاعة الصبورة لهؤلاء المسحوقين ، يقول الكاتب سليم مُطر في كتابه ( الذات الجريحة ) :
( إنه أمرٌ قاسٍ ومُتعِب ، أن تشعر بالأجنبية والإغتراب ، عن أناس تتعايش معهم كل يوم ، وتتصل معهم في شؤون الحياة اليومية ، وتُشاركهم الأرض والهواء والماء والسماء ) !!!.

أحياناً تتقاذفني مشاعر مُزدوجة حول ما دار في ليل الزمن ذات يوم في تصفية حساب عادل ، وأتقلب بين قُطبي الرفض والقبول بما حدث ، لكنني في النهاية ، وبعد أن اُراجع كل خساراتي الحياتية ، وخسارات أهلي وقومي وأصدقائي وجيراني والطيبين من أبناء وطني ، أخرج بمحصلة نهائية تقول : لستُ فخوراً بما فعلنا ، لكنني لستُ نادماً أبداً .
نعم ..... سقطنا في النهر ذاتَ يومْ ، لكننا رفضنا وبإصرار أن ننتهي غرقاً تحتَ سطح مائهِ

شكراً لمتابعتكم الصبورة



#الحكيم_البابلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كان يا ما كان في بغداد
- هوسات وأهازيج شعبية عراقية .......... 1956 - 1963
- عالم النكتة في العراق
- ظواهر إجتماعية البول للحمير !!!
- بابا نويل لا يزور مدن الفقراء !!.
- من داخل القمقم # 3 ( نذور ونهر )
- من داخل القمقم # 2 ( عرائس النار )
- من داخل القمقم ( 1 )
- الوطن المسكون


المزيد.....




- صياد بيدين عاريتين يواجه تمساحا طليقا.. شاهد لمن كانت الغلبة ...
- مقتل صحفيين فلسطينيين خلال تغطيتهما المواجهات في خان يونس
- إسرائيل تعتبر محادثات صفقة الرهائن -الفرصة الأخيرة- قبل الغز ...
- مقتل نجمة التيك توك العراقية -أم فهد- بالرصاص في بغداد
- قصف روسي أوكراني متبادل على مواقع للطاقة يوقع إصابات مؤثرة
- الشرطة الألمانية تفض بالقوة اعتصاما لمتضامنين مع سكان غزة
- ما الاستثمارات التي يريد طلاب أميركا من جامعاتهم سحبها؟
- بعثة أممية تدين الهجوم الدموي على حقل غاز بكردستان العراق
- أنباء عن نية بلجيكا تزويد أوكرانيا بـ4 مقاتلات -إف-16-
- فريق روسي يحقق -إنجازات ذهبية- في أولمبياد -منديلييف- للكيمي ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الحكيم البابلي - يَرمازية وجراد .. ووطن